بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم والعن عدوّهم.
بعض الملاحظات حول الإختلاف الواقع في تحديد يوم شهادة السيّدة الزهراء (ع).
بدايةً لا يخفى على أحد أنّ هناك أكثر من مناسبة من المناسبات ( كالمواليد والوفيات ) واقع فيها الإختلاف لعدة أسباب ترجع إلى التدوين والتصحيف والنقل .. الخ، لكن في أغلب تلك الإختلافات نرى أنّ هناك ترجيح لأحد الروايات على الأخرى أو يتم التعامل معها بحيث كل منطقة أو جماعة تحيي مناسبة بتاريخ معين بناء على رواية معينة وجماعة أو منطقة أخرى تحيي نفس المناسبة بتاريخ آخر بناء على رواية أخرى.
مثال على ذلك تاريخ شهادة الإمام الرضا (ع)، فهناك رواية أنه كان يوم ١٧ صفر، ورواية أخرى أنه في آخر يوم من شهر صفر.. في الكويت غالبا -حسب معرفتي- تُحيا المناسبة على رواية ١٧ صفر، أمّا في مشهد أو قم فقد رأيت أيضا حشود كبيرة تُحييها على رواية آخر يوم من صفر.. مثال آخر تاريخ ولادة الرسول الأكرم (ص)، الأكثر من العلماء ذهبوا أنّه في يوم ١٧ ربيع الأول، لكن ذكر بعض العلماء أنّه في ١٢ ربيع الأوّل، لكن لأن رواية ١٧ ربيع الأول هي الأشهر ظاهرا فيتم الإحتفال بمولده المبارك والقيام بالمستحبات في ذلك اليوم. وكذا هناك عدة روايات في عدة مناسبات منها ما ذكرت، ومنها أيضا تاريخ شهادة الإمام السجاد (ع)، وتاريخ ولادة الإمام الباقر (ع).. وغيرها.
ولعلّ أكثر المناسبات التي بها إختلاف واسع هو تاريخ إستشهاد السيّدة الزهراء (ع)، فهناك ثلاث روايات مشهورة.. وأخرى غير مشهورة، فأمّا الثلاث روايات المشهورة حسب الأيام التي عاشتها السيّدة الزهراء (ع) بعد أبيها رسول الله (ص): فالأولى أنها استشهدت بعد ٤٠ يوم من رحيل النبي (ص)، والثانية ٧٥ يوما، والثالثة ٩٥ يوما، فتكون التواريخ بالترتيب: ٨ ربيع الآخر، ١٣ جمادى الأولى، و٣ جمادى الثانية.. والروايات الغير مشهورة رواية الـ٤٥ يوما، ورواية الـ٦ أشهر وغيرها. وعلى أيّة حال، لست بباحث أو محقق ولا بمقام عرض إستدلال.. إنمّا أنقل وجهة نظر أؤمن بها في إحياء مناسبات أهل البيت (ع)..
هناك قصة تُنقل عن شيخ الشريعة الأصفهاني (قده) أنّه عزم يوما أن يسخّر جهوده ليحقق في الروايات ويوحّد النّاس على أقوى الروايات وأوثقها في استشهاد الزهراء (ع) ليتم إحيائها على أكمل وجه.. فاستغرق أياما طوال، وإذا به أحد الأيّام وهو مستغرق في أحد بحوثه وقد أخذه النعاس ونام، فتشرّف برؤية السيّدة الزهراء (ع) وأمرته بأن يترك عنه هذا الأمر وأن يبقيه على ما هو عليه، فإنها تحب أن تتكرر مصيبتها، ونقل هذه القصة أيضا بمضمون شبيه خطباء آخرون، فترك البحث وجعل يحيي مصيبة السيدة الزهراء (ع) في كل تلك الروايات.
فأوّل نقطة نستعرضها: ما المشكلة في أن يكون هناك إختلاف في الروايات؟ وما المشكلة إذا تم إحياء نفس المناسبة في أكثر من مرة؟ فما نستفيده من الروايات عموما أن ذكر فضائل أهل البيت (ع) أو مظلوميتهم أو مثالب أعدائهم ممدوح في أيّ وقت ولذو ثواب عظيم.. وبالطبع لكل مقام مقال.. فذكر مصيبة الإمام الحسين (ع) مثلا ممدوح في كل وقت، بل وحتى في الأعياد وفي يوم الجمعة التي هي يوم فرح للإنسان المؤمن يستحب قراءة دعاء الندبة في صباحها وما دعاء الندبة إلا عبارة عن مجلس رثاء أهل البيت (ع)..
ثانيا: على وجه الخصوص ما المشكلة في أن يتم إحياء شهادة الزهراء (ع) في أكثر من مرة؟ أليس في ذلك بيان لمظلوميّتها؟! حتى حرّص كثير من العلماء على إحياء الليالي الفاطمية.. كالميرزا جواد التبريزي (قدس سره) الذي قال: “ عندما كان الإمام الصادق (ع) يقول: “رحم الله من أحيا أمرنا” فإن مصداق إحياء أمرهم هو إحياء عاشوراء الحسين (ع) ومظلومية أمه الزهراء (ع).“
ثالثا: هناك توّجه من البعض بإلغاء إحياء شهادتها -روحي لها الفداء- في غير تلك الأيّام، والبعض قام بتهميش الروايات الـ ( غير معتبرة ) حتى لم تتبقى له إلا رواية الـ٤٠ يوما، فوجدوا لأنفسهم ذريعة بأن تلك الرواية تتعارض مع مولد الإمام الحسن العسكري (ع).. وحجتهم كالتالي: رواية مولد الإمام الحسن العسكري (ع) في ٨ ربيع الآخر قوية، ورواية إستشهاد السيدة الزهراء (ع) في نفس اليوم ضعيفة.. ولأن الإمام الحسن العسكري (ع) مظلوم ولا ذكر له فنقدم المولد ولا داعي لإقامة شهادة الزهراء (ع) في ذلك اليوم لأن هناك روايتين أخريتين.. ولم يتوّقف البعض إلى هنا بل وصل التجاسر إلى وصف من يتداول هذه الرواية بأنها رواية نسائية وبالحرف ( سوالف حريم ) ولا اعتبار لها لأنها “ضعيفة”!!
أقول: لا أدري ما مشكلة هؤلاء مع الزهراء (ع)؟! .. وصدقّوني المسألة ليست ضعف رواية أو قوّتها ولا حبّا زائدا للإمام العسكري (ع) ! هداهم الله ! على أية حال الرد على هذه الشبهة لعلها الأطول:
١) مسألة ضعف الروايات وقوّتها وصحة السند من حسنه وما شابه ذلك من العلوم الرجالية تطرق إليها الكثير من العلماء، وأوضحوا أنّ هذه المسألة خاصّة بالفقيه المجتهد ليبيّن الحكم الشرعي لأمر ما.. وأما أكثر الأمور التاريخية لا يتم النظر بها إلى قوة السند من ضعفه وإلا كنا سننكر أغلب التاريخ، والأمر الآخر في نفس النقطة، أنّ هؤلاء الذين لا حرفة لهم سوى تضعيف الروايات ربما يتناسون أو لا يعلمون أصلا مدى خطر “تكذيب” رواية مرويّة عن أهل البيت (ع) فضلا عن تضعيفها، وجهلوا دور علماء الحوزة الأجلاء في حفظها.. وهذه النقطة عموما تحتاج إلى تفصيل لست في مقامه.
٢) هناك قاعدة عامة إسمها ( رجاء المطلوبية ) عند إيجاد رواية في أمرٍ مستحب لم يتم إثباتها، فنستطيع الإستفادة من هذه الرواية: عن الإمام الصادق (ع): “من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه، كان له، وإن لم يكن على ما بلغه.” (الكافي للكليني ج٢ ص٨٧)، فاذا بلغتنا رواية -ولو ضعيفة إن صح القول- بأن في اليوم الفلاني مثلا قد يكون استشهدت السيّدة الزهراء (ع) فنحن حتما ننال الأجر والثواب بإقامة العزاء وإن لم يكن هو التاريخ الفعلي، إضافة إلى أننا وكما ذكرت سلفا نقوم بنصب مآتم في شتى الأيّام ونؤجر، فأليس الأولى بإقامة تلك المآتم في الأيام التي رويت بها روايات؟
٣) لدينا في إستشهاد الإمام الحسن المجتبى (ع) روايتان، الأولى ٧ صفر والثانية ٢٨ صفر، على أن الأولى هي الأشهر، لكن في نفس اليوم هناك رواية -ولعلها الوحيدة- في ولادة الإمام الكاظم (ع)، لكن لم يتم تضخيم الموضوع، وما عرفت إلا مجموعة صغيرة تقوم بالإحتفال بمولده لكن ببساطة نطرح الأمر هكذا: لو تزامنت ذكرى وفاة وذكرى ولادة فأيّهما مُقدّم؟ .. كأن يكون لديك حفل وحالة وفاة، فالطبيعي أن الحفل يؤجل والعزاء يُقدم، ومثال آخر ميلاد الإمام الباقر (ع) فهناك روايتان: ١ رجب و٣ صفر، فأمّا رواية ٣ صفر أيضا لا يتم الإحتفال بها لأن حالة العزاء وأربعين الإمام الحسين (ع) مُقدّم.
٤) كان الأولى أن يقال أننا نقدم أو نؤخر الإحتفال بميلاد الإمام العسكري (ع)، كما هو الحال مع الإمام الكاظم (ع)، وهذا ما يتم فعله، فاعتدت على أن المجالس تحيي شهادة الزهراء (ع) والسيدة المعصومة (ع) “١٠ ربيع الثاني”، وفي ختام مجالسهم يحتلفون بميلاد الإمام العسكري (ع).
كانت هذه الملاحظات التي استطيع ابدائها.. وللأسف كل فترة وأخرى -وسيما في السنوات الأخيرة السابقة- يطل علينا مشككين ليسوا من المخالفين لكن ممن يدّعي أنه شيعي إثنى عشري .. وما عساي أن أقول سوى أعاننا الله .. وفي هذا المقام اقول رضوان الله تعالى على الميرزا جواد التبريزي ذاك العالم الجليل الذي لم يتوانى لحظة في التصدّي لهجمات المشككين في قضيّة السيّدة الزهراء (ع) وبذل ما بذل في الدفاع عنها فجعل من الأيام الفاطمية عاشوراء ثانية يتم إحيائها في إيران بعد أن لم يكن لتلك الأيّام إهتمام بالغ في السابق، فكان من عادته في أيّام شهادة الزهراء (ع) بإختلاف الروايات أن يخرج من منزله إلى حرم السيدة المعصومة (ع) مشيا على الأقدام حافياً.. وكانت بعض الأيّآم تبلغ حرارة الجو فيها أشدها ( تتمة هذه القصة :هنا ) ..
ختاما أقول الحمدلله الذي وفّقنا لنحيي ذكرى شهادة الزهراء (ع)، في ليلة ويوم ٨ ربيع الآخر، غير متناسين الإمام العسكري (ع)، وأيضا وفقنا لنقوم بإحياء الليالي الفاطمية من ليلة ١٣ جمادى الأول إلى ٣ جمادى الآخر، فحتما في ذلك الإحياء إدخال السرور على قلب الزهراء (ع) وإظهار لمظلوميتها بل من لوازم التصدي لهؤلاء الأعداء المتلبسين بلباس التشيع ( اقرأ أيضا: العاشوراء الفاطمية )، إضافة إلى أنه مواساة لمولانا صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف)، ولا شك عندي شخصيا أن هذا الأمر مُقدم عندهم من الفرح، فهذه هي تربية دعاء الندبة وثقافة الإنتظار للثائر! وفقنا الله وإياكم دوما لإقامة مجالس الزهراء (ع)، ومنّ علينا بأخذ ثارها تحت راية ولدها المهدي (روحي فداهما) وزيارة قبرها.
والحمدلله رب العالمين.
الثلاثاء ٨ / ربيع الآخر / ١٤٣٤ هـ.
* بعد التحدّث مع سماحة السيد مهدي الجزائري أبيّن نقطتين مهمّتين:
الأولى: الروايات وردت بحساب عدد الأيّام ( مثلا ٧٥ يوم ) ولا توجد رواية تحدد التاريخ مثل ١٣ جمادى .. فحسب ما نقل السيد أنّه العرف جرى على إحياء الليالي الفاطمية / الأيام الفاطمية في كلّ مرة ثلاثة أيّام -نظرا لتغيّر الشهور الهجرية “صفر، ربيع الأول، ربيع الثاني” كونها إما ٢٩ ليلة أو ٣٠- فالمحصّلة أن الشهادة (مخفيّة) كما قبرها (المخفي)، وتطبيقا فيتم إحياء ١٣ – ١٤ – ١٥ جمادى الأول على أنها الأيام الفاطمية.. وعلى حسب كل منطقة وعرفها.
النقطة الثانية: مسألة إستمراريّة السواد لـ٢٠ ليلة من الفاطمية الثانية إلى الفاطمية الثالثة، فهو موجود نعم في بعض الأماكن في قم كما عند الشيخ الوحيد -دام ظله- في المسجد الأعظم، وهنا في الكويت أيضا هناك من يستمر في لبس السواد وفي حالة الحزن على مدار هذه الـ٢٠ ليلة.. لكن هي مسألة خاضعة للعرف، فالأشهر كما هو الحاصل بالنجف يتم لبس السواد وإقامة العزاء بكثافة فقط في الأيام التي تحيط بالروايات الثلاث.. وعلى كل حال فغالبا تكون المجالس ولله الحمد مستمرة وإن لم يلتزم البعض بالسواد، فيذهب من يستمر بتلك الحالة إلى هدف تعظيم المصاب وجعلها حالة استثنائية، والآخر إلى مراعاة العرف والفصل بين الليالي لتكون حالة الإستمرارية هذه خاصة بمحرم وصفر والتي نصّت عليها الروايات وللمحافظة على قدسية شعيرة السواد لئلا تكون شيء عادي.. والله أعلم.