لماذا السواد؟

       منذ القرون القديمة كان لباس الإنسان محل اهتمام وعناية، فاللباس يعبر عن الحضارة والثقافة، وكثير منه له ما له من الرمزية والدلالة، غير اللباس الاعتيادي الذي يرتديه الناس فهناك ما هو خاص كزيٍّ رسميّ للعمل أو ما يُلبس في أماكن ومناسبات معينة.
      الفرق الرياضية مثلا لها زي موحد ونلاحظ أن غالب -إن لم نقل جميع- من يحضر لتشجيعهم، بل وحتى المشاهد للمباراة وهو في منزله أو في المقهى يرتدي الزي التابع لفريقه، دلالة على تشجيعه وتأييده لذلك الفريق وتضامنه معهم. وعند إقامة نشاط معين في المجتمع يرتدي الناس لونا واحدا موحدا بمختلف الأشكال لإعلان تضامنهم، كاللون الأزرق في اليوم العالمي للسكّري، أو الوردي في حملة التوعية بسرطان الثدي. الاحتجاجات والمظاهرات في السياسة وغيرها أيضا يصاحبها غالبا لباس يتخذه أصحابها شعارا لهم، للتعبير عن موقفهم أو انتمائهم. وإن كل هذه الصور المختلفة تعكس روح التنظيم والتعاون والاتفاق بين أفراد المجموعة الواحدة والذي بدوره يولد قوة لهم. وإن لدينا في الحج لمثال رائع لما أرمي إليه وهو الإحرام، إزار ورداء أبيضان من غير المخيط، يلبسه جميع الحجاج بإختلاف أجناسهم وألوانهم وفيه من الدلالة على المساواة والزهد ومظهر “شعائري” فيه عزة للإسلام والمسلمين.

        أما في العزاء نرى في التاريخ وإلى يومنا هذا أن الناس تتخذ لباسا خاصا للعزاء، تعبيرا عن الحداد والحالة التي هم فيها من الحزن على فقيدهم، وكان المدار غالبا على لون اللباس، وكان ولا زال اللون الأسود هو السائد بين لباس العزاء، مع وجود ألوان أخرى كالبياض الذي يلبس في الهند عند العزاء، وبغض النظر عن ذلك إلا أنه كان ولا زال لباس العزاء محل اهتمام وظاهرة اجتماعية إنسانية في قمة الأهمية حتى أنه في كثير من تلك المجتمعات تجد أنه من المعيب والمشين عدم اتخاذ لبس العزاء، وكما نعلم أن لباس الإنسان غالبا ما يعبر عن حالته، فما لو لبس الألوان الزاهية وتزين يتبين أنه مبتهج وفرح، ولذا في العزاء يترك ما يعد زينة وكل ما يدل على الفرحة والبهجة من اللباس، كما نلاحظ ذلك حكما شرعيا بوجوب ترك الزينة في عدة المتوفى زوجها ويلحق به ( ترك الزينة من اللباس، وترك الأحمر والأصفر ونحوهما من الألوان التي تعد زينة عند العرف بل حتى اللون الأسود لو كانت كيفية تفصيله أو بعض خصوصياته تشتمل على الزينة )(١)، وعلى كل حال فلربما كان السواد أصدق لون للحزن كونه لون الكآبة والظلمة.

        تأمل عزيزي القارئ – ونحن في أيام أكبر وأعظم فجيعة تتجدد عاما بعد عام، وهي شهري أبي عبدالله الحسين عليه السلام- ما رواه ابن قولويه في كتابه كامل الزيارات: (إنّ ملكاً من ملائكة الفردوس الأعلى، نزل على البحر، فنشر أجنحته عليها، ثمّ صاح صيحة وقال: يا أهل البحار البسوا أثواب الحزن، فإنّ فرخ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مذبوح)(٢). وما رواه البرقي في المحاسن، بسنده عن عمر بن علي بن الحسين، قال: (لمّا قتل الحسين بن عليّ عليه السلام، لبسن نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين عليه السلام يعمل لهنّ الطعام للمأتم)(٣). فها نحن نتخذ في هذه الأيام السواد لباسا، فمضافا على أنه لباس الحزن والعزاء وفيه ما فيه من إحترام لحرمة هذه الأيام، فهو كذلك إحياء لأمر أهل البيت عليهم السلام، كما ينقل من أجوبة العلماء أنه لو لُبس السواد سيتساءل الناس لماذا السواد؟ وهذا في حد ذاته إحياء لأمرهم، وإرشاد بغير لسان إليهم، ويتحقق في لبسنا جميعا للسواد تلك الصور التي ذكرتها سلفا، فهي مصدر قوة للمذهب، وصار لبس السواد شعارا ورمزا، حتى قال الاعداء عن الأعداد المليونية في زيارة الأربعين الـ”ثعبان الأسود“.. فهذه من الشعائر الحسينية التي تحفظ لنا المذهب وتحفظ لنا الدين وتحفظ عاشوراء، وحافظ عليها العلماء..

أختم بهذه القصة للميرزا جواد التبريزي -رضوان الله عليه- ينقلها السيد منير الخباز: ”وكان يلبس -أي الميرزا جواد- السواد طوال شهري محرم وصفر، ويوصي بلبسه، يحدثني أحد أساتذتي قائلا: كنت على موعد مسبق مع سماحته في قضية ما، فذهبت إلى مكتبه وكان لوحده جالسا مشغولا بكتبه، وكان ذلك اليوم من الأيام المشكوك كونها من آخر صفر أو أول ربيع الأول، واعتمدت أنا على التقويم ولم ألبس السواد، بينما كان سماحته لابسا للون الأسود، عندما رآني قال لي: اذهب إلى منزلك وارتد الملابس السوداء وسأنتظرك حتى تعود، يقول: امتثلت طلبه وبالفعل رجعت إليه وأنهيت معه ما جئت لأجله. إن هذا النوع من التعامل مع واحدة من أنماط الشعائر الحسينية أي لبس السواد يكشف عن مدى أهميتها وأنها موضع رضا الله سبحانه ورضا رسوله (ص) وأهل بيته (ع).“

ولا غرابة فهذا دأب علمائنا السابقين وما يستمر عليه الأحياء وهو ما استفادوه من تراث أهل البيت (ع) وأصحابهم.. فراجعوا سيرتهم وفتاواهم وما نقلوه.)
ختاما فلنتشح بالسواد ونحافظ عليه في عزائنا، ولا نتهاون فيه ونتركه..
وفقنا الله وإياكم لإقامة الشعائر الحسينية واحترام حرمتها وحرمة هذه الأيام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(١) راجع الرسالة العملية.
(٢المحاسن الجزء الثاني – باب الإطعام في المآتم – حديث رقم ١٩٥
(٣كامل لزيارات، الباب ٢١ حديث رقم ١٦٨
) هناك حادثة منقولة في البحار ج٤٤ ص٢٩٥ فراجع إن أحببت.

الشعائر الحسينية بين الارشاد والافساد.

بسمه تعالى وبه استعين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. صلى الله عليك يا أبا عبدالله وعلى المستشهدين بين يديك.. وعظم الله أجوركم بذكرى الفاجعة الأليمة.

       في كل عام قبيل محرم وأثنائه تهب عواصف الفتن بانواعها، وتُشنّ الحروب والحملات بشكل متعمد أو بشكل عفويّ، ويتراشق هذا وذاك في مختلف الشؤون الحُسينيّة. والحال أن كثيرًا من الكلمات التي تصدر هنا وهناك هي في محل نقد الشعائر الحسينية وملازماتها، وللحديث في هذا الأمر ينبغي تقسيم هذا النقد حسب الناقد إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الناصح بحكمة، الذي يعرف أنى وماذا يقول.
الثاني: -وهو محل كلامنا- الناصح بلا حكمة، فيقول كلمته -وإن أردنا أن نحسن ظننا بأنه يريد الإصلاح- فيُحسب كلامه على القسم الثالث وإن كان شخصه مختلف عنهم وليس فيهم.
الثالث: فهو والمخالف المبغض لنا سواء، نفسه مريضة، لم يتلقَ تأسيسا عقائديا رصينا، أو لم يقبلها فصار يضرب كل ما يمت بصلة لشعائر الإمام الحسين (عليه السلام)، أو ربما كان ممن لا يمتلك أبسط قواعد الفقاهة بل ولا خلفية دينية مناسبة فينشر جهله بين الناس، وعمومًا أفراد هذه الفئة كثيرون لا يسع المقام لحصرهم.

وبعد هذا الترتيب أقول؛ مما لا ريب فيه أن المؤمنين جميعا يستأنسون بإقامة شعائر الله على أكمل وجه، وأن تكون خالصة لا تشوبها شائبة، فتزيد في علوّ مكانتها وتكون كما هي مصدر قوّتنا وفخرنا وعزّتنا.. فلا يمانع المؤمن بأن تقام بشكل أفضل لو وجدت ملاحظات، إلا أن هذه الشعائر.. والشعائر الحسينية على وجه الخصوص أنواع، يمكن تقسيمها في هذا المقال أيضا إلى ثلاثة أقسام:

أ) ما هو قابل للنقد والتطوير بلحاظ وجود بعض السلبيات أو النقائص التنظيمية وغير التنظيمية.
ب) ما هو قابل للنقد والتطوير إلا أن موضوع الانتقاد غير متحقق في الواقع.
ج) ما لا يمكن انتقاده ولا يفصّل فيه إلا ذوو الإختصاص.

نأتي للتفصيل:

من الأمور التي ذكرت في البضع سنين الماضية على سبيل المثال مسألة توزيع الطعام في الطرقات، وهذا من القسم الأول، فهو قابل للنقد والتطوير. محل الخلاف هو كيفية توصيل النقد أو بالأحرى النصيحة الأمينة، فالشخص الأول يتحلى بحكمة ويعرف ماذا يقول بحيث لا ينتقص من المسألة شيئا أو يسبب لها التوهين والتضعيف، فيقول مثلا: ( إن هذا التوزيع أمر عظيم وتؤجرون عليه وإني أشجعكم عليه إلا أني أحب أن أراه بشكلٍ أفضل وبتنظيم أكثر وبشباب آورع ) مراعيا المكان الذي يوجه فيه هذه النصيحة والوقت المناسب، أو بعض الأمور التوجيهية كتنبيه هذا القارئ بوجود أخطاء إملائية في قراءته وهلمّ جرّه.

أما الشخص الثاني، ففي نيّته أنّه يريد الأفضل -فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه- لكن المشكلة في هذا الشخص أنه يتعثر بلسانه فيقول مقالة الشخص الثالث ويوجه نقدا هو شبيه بخطاب ذاك العدوّ المتربّص، فيُوجّه كل تلك الأخطاء بشكلٍ سلبيّ في نقده، من غير مراعاة للوقت والمكان المناسبَين، فلا تفهم منه إلا الاستنقاص، حتى ولو كانت بلسانٍ أكثر لطفا لكنّه سيواجه شاء أم أبى ردّة فعلٍ من الغيارى، ولا يلوم في ذلك إلا نفسه، فلا يملك كل الناس قدرة تمييزه -إن كانت نيّته سليمة- عن هؤلاء المبغضين، فيرونه وهؤلاء في صفٍّ واحد، فضلا عن كون كلمته تخدمهم، سيّما وأن الناس تعلم بأنّ هذه الشعائر الحسينية حفظت لنا الدين وحفظت لنا عاشوراء وأقل تضعيف لها يكسر ظهر خاتم الأنبياء (ص) وهذا ما يُستلهم من كلمات فقهائنا الأعلام.

هذا كله إذا كان ما يرمى إليه النقد واضحا من حيث جوانب الخطأ، فإن لم يكن واضحًا، وابتنى رأيه على حالةٍ شاذة، أو مغالطة، فدخلنا هكذا في القسم الثاني، مسألة الإسراف في الإطعام -مثلا- قد تندرج تحت هذا العنوان، فكم من مجلس يرمي الطعام فيتحقق فيه التبذير فعلا؟ ومن أصل كم مجلس في الواقع؟ إما أنه فعلا من المتعارف ما بين المجالس رمي الفاضل من الطعام بأعداد زائدة، أو أنها مغالطة وتعميم صدر نتيجة موقف شخصي أو حادثة فريدة حصلت، ولا يصح هنا أن نصدر حكمًا على الجميع، فالشخص الأول في هذه الحالة إن عَرِف تلك الحالات الفريدة نصحهم بعينهم، أما الثاني فيصدر تعميما كأنّ جميع المجالس تبذر في الطعام! وهنا -مرة أخرى- صبّ في مصب العدو وقدم له خدمة على طبق من ذهب.

ان كنت لا تتفق فاستبدل ( مسألة الإسراف ) بمسألة أخرى.. كحالة فردية حصلت العام الماضي من تواجد نساء يوزعن البركة في إحدى المواكب.. هذه حالة فريدة ينبغي أن توجه إليهم النصيحة، ولا بأس بتوجيه ملاحظة عامة، لكن المغالطة أن يقال: المواكب يتواجد بها نساء ويجب أن لا تحدث هذه الأمور.. فيتصور عامة الناس بأنها سمة غالبة..

وأما القسم الأخير، فهو ما لا نقد فيه، كأصل -لا تفاصيل- شعائر مثل البكاء أو اللطم أو غيرها من صور الجزع، فالكلمة الأولى والأخيرة هي للمرجعية، ولها دون غيرها حق الفصل فيها، فلا يحق لأحد كائنا من كان أن يوجّه انتقادًا على بكاء أو لطم بما هو، أو الفصل في الوقائع التاريخية التي هي من إختصاص أهل التحقيق والفضلاء من أهل العلم لا من شأن الذوق والاستحسان، وإن جئنا لمسألة متكررة كالتطبير، فالقول فيه سواء، ما دام يرجع المكلّف إلى من يجوّزه أو يراه مستحبّا فلا يحق لمن يرجع لمن يرى غير ذلك أن ينتقد القائم به، وهنا ندخل في مسألة حلال وحرام، فلو كان النقد أمرا بمعروف ونهيا عن منكر، فيشترط أن يكون المنكر الذي يريد الناهي النهي عنه منكرا عند من يريد نهيه! وعدم احترام هذا الأمر فيه انتهاك لحرمة الحكم الشرعي، وضرب لأهم ما نفخر به في التشيع في زمن الغيبة وهو باب الاجتهاد، ولذا كان لزاما على كل مكلف العمل بتكليفه، وأن يتحمل ما يلقاه من ردة فعل الناس ما لو وجّه لهم ما لا يحق له، ولا يستوي من يدعو إلى رأيه بمن يحط من رأي غيره.

وكذا لو اتفق بين المراجع على حرمة شيء ما، انقلب الأمر ولا داع للحديث في هذا الشأن.

تبقى مسألة أخيرة أود طرحها، وهي ما لو وُجّهت نصيحة أو انتقاد، على فرض أنها قيلت في المكان والزمان المناسب، فليس بالضرورة أنها نصيحة يجب العمل بها.

وبالطبع لا أستهدف بهذا المقال النوع الثالث من الأشخاص كمن يريد إلغاء الإطعام من أصله للتبرع وغير ذلك من الإشكالات، فالردود عليهم واللسان الحادّ الذي يستحقونه وما يدحض شبهاتهم موجود بوفرة، زاد الله المؤمنين قوةً وإيمانا، وعددا كما يحصل مرارا، فما إن تكلّم هؤلاء على شيء من الشعائر الحسينية إلا ونرى تزايدا مهيبا في أعداد مقيميها.

خلاصة القول، لا بد من رعاية لغة الخطاب ورعاية الشروط الأخرى في النصيحة، والاخلاص فيها بغير لغط، فقاتل الله الهوى والرأي بلا سند، فالحذر اذ قد يترتب على عدم رعاية هذا الأمر -ولو بغير قصد- تضعيف المذهب وتضعيف شعائره وكسر المؤمنين، وخدمة مرضى النفوس وصب الكلام في مصب أهدافهم وغاياتهم.

ولا ننسى أن وجود خطأ أو شبهة في فعل ما لا يلغي أصل الفعل -كما وضحت- فلا يلغى الحج لوجود عصاة في الحج مثلا!

وإن اختلف المؤمنون في تشخيص موضوع ما أو أسلوب القيام بفعل ما وفق مساحة الاختلاف المسموحة، فما يمنعهم أن يفعلوه دون التعرض لإخوانهم المؤمنين؟

وفقنا الله وإياكم لخدمة المولى أبي عبدالله عليه السلام، وإقامة شعائره على أفضل وجه.

والكاظمين الغيظ

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله كما هو أهله وصلى الله على المصطفى الأمجد أبي القاسم محمد (ص) وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.. واللعن الدائم على أعدائهم ومنكري فضائلهم ومصائبهم إلى يوم الدين.

عظم الله لك الأجر سيّدي بجدّك الغريب المظلوم الكاظم (ع).. فدته نفوسنا.. حليف السجدة الطويلة.. المعذّب في قعر السجون وظلم المطامير..

وعظم الله تعالى أجوركم جميعا..

مما سمعته من أحد مجالس البارحة، قضيّة لم تكن جديدة على مسمعي.. لكن في كثير من الأحيان حينما تسمع بأمرٍ ما لأوّل مرّة قد يمرّ مرورا كريمًا أو قد لا تتأمله بشكل كافٍ.. أو ربما تتأمل فيه جانبا دون آخر، فإذا تكرّر عليك سماع نفس القضية تفكّرت بجوانب أخرى..

وهكذا مع كثير من الأمور، مثل القرآن الذي نختمه في كل سنة مرة على أقل تقدير.. تجد حينما تقرأ يوما من الأيام آية ما تُحدّث نفسك بأن هذه الآية مثلا كأنّك تقرأها لأوّل مرة، أو ربما قرأتها من قبل لكنّك تشعُر بحالة “إشراق” ويطرأ في فكرك ربطٌ جديد قد يشغلك لأيّام.

على أيّة حال، القضية التي نُقلت بالأمس كانت ما جرى بين الإمام الكاظم (ع) وإحدى جارياته – حسبما قال الخطيب- كانت تحمل أحد أبناءه الرُضّع لكنه سقط من يديها عن غير عمد فمات ( وما وجدته في بعض المصادر أن الحادثة كانت أن الجارية كانت تصب للإمام ماءً ليتوضأ به لكن سقط من يدها الإبريق فشجّ رأس الإمام الشريف) فتبادرت مسرعة خائفة قائلة: “والكاظمين الغيظ”، فقال لها الإمام: كظمت غيظي، فقالت: “والعافين عن الناس”، فقال: عفوت عنك، فقالت: “والله يحب المحسنين”، فقال: اذهبي فأنتِ حرّة لوجه الله.

فاستَعرَضَ ما بهذه الرواية من جوانب أخلاقية عظيمة، وسأطرحها هنا اعتمادًا على رواية الخطيب التي نصّت بموت طفله.

أولا يجب أن نعلم أن الإمام المعصوم (ع) كونه معصوماً لا ينفي عنه العاطفة، فالإمام المعصوم بلا شك يحبّ أبناءه ويشفق عليهم، بل وأعتقد أن أكثر الناس حبّا لأبنائهم -حب في الله كما أمر الله- هم المعصومون (ع)، فكيّف يتصرّف أحدنا إن مات له طفل.. وبسبب إهمال أو خطأ؟ .. هل سنبتسم ونقول لا بأس.. بل حتما سنغضب غضبًا قد يؤدي بنا إلى الثأر والإنتقام، كما يقال: بشر القاتل بالقتل، وغيرها من المشاكل..

ثانيا وهي نقطة جميلة تحاكي العصر والمجتمع الحالي، أغلب البيوتات لديها أقلّا خادمة، هذا إن لم يكن لديهم أكثر، بالإضافة لسوّاق أو طبّاخين وغير ذلك من الجناسي الآسيوية مثلا، والواقع أنّ هذا الخادم / الخادمة أو أيّا ممن يعمل لديك حاله حال الموظّف يعمل مقابل أجر، ويجب أن يعامل معاملة الإنسان المحترم حاله حال أي إنسان يستحق أبسط حقوق العيش الكريم، لا فرق في ذلك بين الجنسيات ولا المعتقدات.. فحتى أهل الكتاب بغض النظر عن إختلاف آراء المراجع العظام بمسائل الطهارة إلا أنّه لا يختلف إثنان على حرمة التعدّي عليهم.

أتوقف هنا لأتكلم بتفصيل أكثر في هذا الموضوع. لو أردنا أن نتعرف على أخلاق الكثير في مجتمعنا، يمكننا بكل بساطة أن نرى تعامل الشخص المطلوب مع الخادمة في منزله، أو عامل النظافة في الشارع، أو دافع العربة في الجمعية، أو أو أو .. مع الأسف نرى كثيرًا أن التعامل معهم كأنهم عبيد !! فالخادمة كأنّها من الإماء الجاريات، ويصرخ هذا عليها، وينهرها ذاك، وتضربها تلك، ويعاملوا بأبشع صور المعاملة إلى درجة أننا نرى في المجتمع بأن ( الكلب ) معزّز مكرّم، وتلك الخادمة كما الكيس موضوع في خزانة السيارة !! والمشكلة أنّ ديننا أعطى العبيد والإماء حقوق، ونظّم كيفيّة التعامل معهم، وضرب لنا الأطهار أروع الصور في التعامل معهم، وحرّم إهانتهم وضربهم وغصب حقوقهم.. المشكلة أنني أتكلم هنا عن شيء اندثر بفضل الإسلام مع الأيّام فلم يبقى موجودا بيننا الآن.. وما لدينا ليسوا ( عبيد وإماء ) .. هم أناس! عند الله هم ونحن سواء في الحقوق والواجبات !

وهنا كان لزامًا عليّ أن أشكر والديّ اللذين غرّسا هذا المفهوم في العائلة منذ الصغر وورثوها هم من آبائهم.. فلا أكاد أدخل أنا وإخوتي في مكان إلا كان أوّل من يستقبلنا بحرارة وإبتسامة هو عامل النظافة الهندي أو الغسّال الباكستاني، ويسأل عن الوالد وأحواله.. ونتحدّث ونتعامل معاً كأصدقاء..

أدري أنّ هناك الكثير من هم هكذا وأفضل بدرجات.. لكن لا أبالغ إن قلت أنّ النظرة الدونية لهؤلاء هي -مع الأسف- الغالبة على مجتمعنا، ولا فرق في ذلك بين المتديّن ظاهريّا أو غيره..

ولربط هذا الموضوع بالحديث والرجوع إليه، نلاحظ أنّ تعامل أهل البيت (ع) مع الإماء والجواري هي أروع المعاملات بل أفضلها على الإطلاق، فيربونهم أي تربية! فهذه جارية الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع).. أيّ تربية تربّت حتى كان أوّل ما تلفظه في مثل تلك الحادثة آية قرآنية، لأن وأهل البيت (ع) أولى الناس بتطبيق القرآن، -فهم القرآن الناطق-

فكيف تتوقع أن يتم التعامل مع حدث في أمر عظيم ليس بهيّن إلا أنه كان خطأ، فالقاتل بغير عمد ذمّته بريئة من المسؤولية الشرعية إلا أنّ الشرع طبعا يطالبه بديّة ! ..

لكن ما عرفناه من الإمام الكاظم (ع) أنّه في موقفٍ قد لا يقوى على تداركه إلا معصوم مثله، قال لها: كظمت غيظي! وكظم الغيظ عند المعصوم ليس مثلنا حينما نتظاهر أننا كظمنا الغيظ .. لكننا نضمر الحقد، ويتضاعف هذا الغضب عشرات الأضعاف حتّى إذا صدر موقفا جديدا انهلنا على الشخص وانفجرنا.

ولا نزال نستطيع أن نتأمّل هذه الرواية بين فترة وأخرى ونستلهم منها دروسًا عظيمة، من معرفة الإمام (ع) إلى منهج للحياة والأخلاق..

أختم وأقول من عندي هذا الشيء القليل، إن كانت هذه الجارية اقترفت من التقصير ما أدّى لقتل فلذّة كبد الإمام المعصوم (ع).. فكظم غيظه وعفى عنها وأطلقها لوجه الله، ونحن لم نصل -إن شاء الله- لهذا الحد.. وكلنا تقصير وإسراف.. فمع سيّدنا ومولانا صاحب العصر -أرواحنا لتراب مقدمه الفداء- هل يمكننا أن نقول له سيّدي ( والكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس ، والله يحب المحسنين ) ؟ فينسى غضبه علينا إن كان غاضبا؟ ويعفو عنا؟ .. ولأن المعصومين مظاهر صفات الله نسأل الله أن يمّن علينا بذلك..

عفا الله عنّا وعنكم، ورزقنا وإياكم مكارم الأخلاق.. ووفقنا لنكون مع ساداتنا في الدنيا والآخرة.

والحمدلله رب العالمين.