منذ القرون القديمة كان لباس الإنسان محل اهتمام وعناية، فاللباس يعبر عن الحضارة والثقافة، وكثير منه له ما له من الرمزية والدلالة، غير اللباس الاعتيادي الذي يرتديه الناس فهناك ما هو خاص كزيٍّ رسميّ للعمل أو ما يُلبس في أماكن ومناسبات معينة.
الفرق الرياضية مثلا لها زي موحد ونلاحظ أن غالب -إن لم نقل جميع- من يحضر لتشجيعهم، بل وحتى المشاهد للمباراة وهو في منزله أو في المقهى يرتدي الزي التابع لفريقه، دلالة على تشجيعه وتأييده لذلك الفريق وتضامنه معهم. وعند إقامة نشاط معين في المجتمع يرتدي الناس لونا واحدا موحدا بمختلف الأشكال لإعلان تضامنهم، كاللون الأزرق في اليوم العالمي للسكّري، أو الوردي في حملة التوعية بسرطان الثدي. الاحتجاجات والمظاهرات في السياسة وغيرها أيضا يصاحبها غالبا لباس يتخذه أصحابها شعارا لهم، للتعبير عن موقفهم أو انتمائهم. وإن كل هذه الصور المختلفة تعكس روح التنظيم والتعاون والاتفاق بين أفراد المجموعة الواحدة والذي بدوره يولد قوة لهم. وإن لدينا في الحج لمثال رائع لما أرمي إليه وهو الإحرام، إزار ورداء أبيضان من غير المخيط، يلبسه جميع الحجاج بإختلاف أجناسهم وألوانهم وفيه من الدلالة على المساواة والزهد ومظهر “شعائري” فيه عزة للإسلام والمسلمين.
أما في العزاء نرى في التاريخ وإلى يومنا هذا أن الناس تتخذ لباسا خاصا للعزاء، تعبيرا عن الحداد والحالة التي هم فيها من الحزن على فقيدهم، وكان المدار غالبا على لون اللباس، وكان ولا زال اللون الأسود هو السائد بين لباس العزاء، مع وجود ألوان أخرى كالبياض الذي يلبس في الهند عند العزاء، وبغض النظر عن ذلك إلا أنه كان ولا زال لباس العزاء محل اهتمام وظاهرة اجتماعية إنسانية في قمة الأهمية حتى أنه في كثير من تلك المجتمعات تجد أنه من المعيب والمشين عدم اتخاذ لبس العزاء، وكما نعلم أن لباس الإنسان غالبا ما يعبر عن حالته، فما لو لبس الألوان الزاهية وتزين يتبين أنه مبتهج وفرح، ولذا في العزاء يترك ما يعد زينة وكل ما يدل على الفرحة والبهجة من اللباس، كما نلاحظ ذلك حكما شرعيا بوجوب ترك الزينة في عدة المتوفى زوجها ويلحق به ( ترك الزينة من اللباس، وترك الأحمر والأصفر ونحوهما من الألوان التي تعد زينة عند العرف بل حتى اللون الأسود لو كانت كيفية تفصيله أو بعض خصوصياته تشتمل على الزينة )(١)، وعلى كل حال فلربما كان السواد أصدق لون للحزن كونه لون الكآبة والظلمة.
تأمل عزيزي القارئ – ونحن في أيام أكبر وأعظم فجيعة تتجدد عاما بعد عام، وهي شهري أبي عبدالله الحسين عليه السلام- ما رواه ابن قولويه في كتابه كامل الزيارات: (إنّ ملكاً من ملائكة الفردوس الأعلى، نزل على البحر، فنشر أجنحته عليها، ثمّ صاح صيحة وقال: يا أهل البحار البسوا أثواب الحزن، فإنّ فرخ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مذبوح)(٢). وما رواه البرقي في المحاسن، بسنده عن عمر بن علي بن الحسين، قال: (لمّا قتل الحسين بن عليّ عليه السلام، لبسن نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين عليه السلام يعمل لهنّ الطعام للمأتم)(٣). فها نحن نتخذ في هذه الأيام السواد لباسا، فمضافا على أنه لباس الحزن والعزاء وفيه ما فيه من إحترام لحرمة هذه الأيام، فهو كذلك إحياء لأمر أهل البيت عليهم السلام، كما ينقل من أجوبة العلماء أنه لو لُبس السواد سيتساءل الناس لماذا السواد؟ وهذا في حد ذاته إحياء لأمرهم، وإرشاد بغير لسان إليهم، ويتحقق في لبسنا جميعا للسواد تلك الصور التي ذكرتها سلفا، فهي مصدر قوة للمذهب، وصار لبس السواد شعارا ورمزا، حتى قال الاعداء عن الأعداد المليونية في زيارة الأربعين الـ”ثعبان الأسود“.. فهذه من الشعائر الحسينية التي تحفظ لنا المذهب وتحفظ لنا الدين وتحفظ عاشوراء، وحافظ عليها العلماء..
أختم بهذه القصة للميرزا جواد التبريزي -رضوان الله عليه- ينقلها السيد منير الخباز: ”وكان يلبس -أي الميرزا جواد- السواد طوال شهري محرم وصفر، ويوصي بلبسه، يحدثني أحد أساتذتي قائلا: كنت على موعد مسبق مع سماحته في قضية ما، فذهبت إلى مكتبه وكان لوحده جالسا مشغولا بكتبه، وكان ذلك اليوم من الأيام المشكوك كونها من آخر صفر أو أول ربيع الأول، واعتمدت أنا على التقويم ولم ألبس السواد، بينما كان سماحته لابسا للون الأسود، عندما رآني قال لي: اذهب إلى منزلك وارتد الملابس السوداء وسأنتظرك حتى تعود، يقول: امتثلت طلبه وبالفعل رجعت إليه وأنهيت معه ما جئت لأجله. إن هذا النوع من التعامل مع واحدة من أنماط الشعائر الحسينية أي لبس السواد يكشف عن مدى أهميتها وأنها موضع رضا الله سبحانه ورضا رسوله (ص) وأهل بيته (ع).“
ولا غرابة فهذا دأب علمائنا السابقين وما يستمر عليه الأحياء وهو ما استفادوه من تراث أهل البيت (ع) وأصحابهم.. فراجعوا سيرتهم وفتاواهم وما نقلوه.(٤)
ختاما فلنتشح بالسواد ونحافظ عليه في عزائنا، ولا نتهاون فيه ونتركه.. وفقنا الله وإياكم لإقامة الشعائر الحسينية واحترام حرمتها وحرمة هذه الأيام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(١) راجع الرسالة العملية.
(٢) المحاسن الجزء الثاني – باب الإطعام في المآتم – حديث رقم ١٩٥
(٣) كامل لزيارات، الباب ٢١ حديث رقم ١٦٨
(٤) هناك حادثة منقولة في البحار ج٤٤ ص٢٩٥ فراجع إن أحببت.